ما معنى قوله تعالى : فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب
د لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا لقاء جديد مع قاعدة من قواعد تربية النفس، وتوجيه علاقتها مع الله عز وجل، تلكم القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}الشرح: 7، 8.
وهذه القاعدة ـ كما لا يخفى ـ جزء من سورة الشرح، وقد بدئت بحرف الفاء المرتبط بالجملة الشرطية، وهذه الفاء هي فاء التفريع، أي أن ما بعدها فرع عما قبلها، فلننظر فيما قبلها، يقول الله عز وجل: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 1 – 8].
وغني عن القول أن هذه السورة العظيمة ـ سورة الشرح ـ “احتوت على ذكرِ عنايةِ الله تعالى لرسوله بلطف الله له, وإزالةِ الغمّ والحرجِ عنه، وتيسير ما عسر عليه، وتشريفِ قدره؛ لِيُنَفِّسَ عنه؛ فمضمونُها شبيهٌ بأنه حجةٌ على مضمون سورة الضحى؛ تثبيتاً له بتذكيره سالف عنايته به, وإنارة سبيل الحق, وترفيع الدرجة؛ ليعلم أن الذي ابتدأه بنعمته ما كان لِيقطع عنه فضله، وكان ذلك بطريقة التقرير بماض يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم”(2).
فإذا اتضح تبين موقع هذه القاعدة التي نتحدث عنها: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} والتي يأمر الله فيها نبيه صلى الله عليه وسلم إذا انتهى من طاعة أو عملٍ ما أن ينصب ويبدأ في عمل أو طاعة أخرى، وأن يرغب إلى ربه في الدعاء والعبادة، والتضرع والتبتل، لأن حياة المسلم الحق كلها لله، فليس فيها مجال لسفاسف الأمور، بل إن اللهو الذي تبيحه الشريعة لأصناف من الناس كالنساء والصبيان، أو في بعض الأوقات كالأعياد والأفراح؛ فإن من أعظم مقاصد ذلك أن يعيش أن يستجم الإنسان ـ والاستجمام للجد مرة ثانيةً من الشغل النافع ـ وأن يعيش العبودية لله في جميع أحواله، فهو يعيشها في السراء والضراء، وفي الشدة والرخاء، وفي الحضر والسفر، وفي الضحك والبكاء، ليتمثل حقاً قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]، متأسياً ـ قدر الطاقة بالثلة المباركة من أنبياء الله ورسله ـ الذين أثنى الله عليهم بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}[الأنبياء: 90].
قال ابن القيم رحمه الله: “وأما الرغبة في الله، وإرادةُ وجهه، والشوقُ إلى لقائه، فهي رأس مال العبد، وملاكُ أمره، وقوامُ حياته الطيبة، وأصلُ سعادته وفلاحه ونعيمه، وقرةُ عينه، ولذلك خلق، وبه أُمِرَ، وبذلك أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، ولا صلاح للقلب ولا نعيم إلا بأن تكون رغبته إلى الله عز وجل وحده، فيكون هو وحده مرغوبه ومطلوبه ومراده، كما قال الله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}[الشرح: 7، 8]” (3).
أيها القراء الكرام:
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه القاعدة: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} معنى عظيم، وهو أصل من الأصول التي تدل على أن الإسلام يكره من أبنائه أن يكونوا فارغين من أي عمل ديني أو دنيوي! وبهذا نطقت الآثار عن السلف الصالح رحمهم الله:
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: إني لأمقت أن أرى الرجل فارغاً لا في عمل دنيا ولا آخرة(4)، وسبب مقت ابن مسعود رضي الله عنه لهذا النوع من الناس؛ لأن “قعود الرجل فارغاً من غير شغل، أو اشتغاله بما لا يعينه في دينه أو دنياه من سفه الرأي، وسخافة العقل، واستيلاء الغفلة” (5).
ولقد دلّ القرآن على أن هذا النوع من الناس الفارغين ـ وإن شئت فسمهم البطالين ـ ليسوا أهلاً لطاعة أوامرهم، بل تنبغي مجانبتهم؛ لئلا يُعدوا بطبعهم الرديء، كما قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}[الكهف: 28]، يقول العلامة السعدي رحمه الله: “ودلت الآية، على أن الذي ينبغي أن يطاع، ويكون إماماً للناس، من امتلأ قلبه بمحبة الله، وفاض ذلك على لسانه، فلهج بذكر الله، واتبع مراضي ربه، فقدمها على هواه، فحفظ بذلك ما حفظ من وقته، وصلحت أحواله، واستقامت أفعاله، ودعا الناس إلى ما من الله به عليه، فحقيق بذلك، أن يتبع ويجعل إماماً”(6).
أيها الإخوة المؤمنون:
ومن هدايات هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} أنها تربي في المؤمن سرعة إنجاز الأمور ـ ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ـ وعدمِ إحالة إنجازها إلى وقت الفراغ، فإن ذلك الأساليب التي يخدع بها بعض الناس نفسه، ويبرر بها عجزه، وإن من عجز عن امتلاك يومه فهو عن امتلاك غده أعجز!
قال بعض الصالحين: “كان الصديقون يستحيون من الله أن يكونوا اليوم على مثل حالهم بالأمس” علق ابن رجب: على هذا فقال: “يشير إلى أنهم كانوا لا يرضون كل يوم إلا بالزيادة من عمل الخير، ويستحيون من فقد ذلك و يعدونه خسراناً”(7)، ومن جميل ما قيل في هذا المعنى ذينك البيتين السائرين:
إذا هجع النوام أسبلت عبرتي *** وأنشدت بيتاً فهو من أحسن الشعر
أليس من الخسران أنَّ ليالياً *** تمر بلا شيء وتحسب من عمر
ومن الحكم السائرة: لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد! وهي حكمة صحيحة يشهد القرآن بصحتها، وقد روي عن الإمام أحمد: أنه قال: إن التأخير له آفات! وصدق:، والشواهد على هذا كثيرة:
ـ فمن الناس من يكون عليه التزامات شرعية بينه وبين الله، كقضاء الصيام، أو أداء فرض الحج ـ مثلاً ـ فتراه يسوّف ويماطل، حتى يتضايق عليه الوقت في الصيام، أو يفجأه الموت قبل أن يحج! ولئن كان هذا قبيحاً ومذموماً في حقوق الله، فهو في حقوق الخلق ـ المبنية على المشاحة ـ أشد وأعظم، وكم ندم من كانت عليهم ديون حين تساهلوا في تسديدها وهي قليلة، فتراكمت عليهم، فعجزوا عنها، وصاروا بين ملاحقة الغرماء، والركض وراء الناس وإراقة ماء الوجه للاستدانة من جديد، أو للأخذ من الزكاة!! فهل من معتبر؟!
ـ ومن آثار مخالفة هذه القاعدة: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}: أن بعض الناس لا يهتبل ولا يستغل الفرص التي تسنح في طلب العلم، وتحصيله، فإذا انفرط عليه العمر، وتقضى الزمن، ندم على أنه لم يكن قد حصل شيئاً من العلم ينفعه في حياته وبعد مماته!
وقل مثل ذلك: في تفريط كثير من الناس ـ وخصوصاً الشباب والفتيات ـ في التوبة، والإنابة، والرغبة إلى الله، بحجة أنهم إذا كبروا تابوا، وهذا لعمر الله من تلبيس إبليس!
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى *** ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله *** وأنك لم ترصد بما كان أرصدا
وقوله تعالى ـ في هذه القاعدة التي هي مدار حديثنا ـ: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} أبلغ، وأعظم حادٍ إلى العمل، والجد في استثمار الزمن قبل الندم.
وإلى لقاء قادم بإذن الله تعالى، والحمد لله رب العالمين.
قام الدكتور عصام الروبي ـ أحد علماء الازهر الشريف ـ بتفسير معنى الآية الكريمة من الكتاب الحكيم: {فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب}.. [الشرح: 7 – 8 ]
(فإذا فرغت): والفراغ يكون بعد الشغل، والمعنى: عندما تنتهي من عمل تقوم به. والخطاب هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قيل: المعنى: إذا فرغت من الغزو. وقيل: إذا فرغت من التبليغ. وقيل: إذا فرغت من الصلاة.
(فانصب): والنصب: هو التعب، وقيل: المعنى هنا: انصب (اتعب) في الدعاء. وقيل: اتعب في الشكر. وقيل: اجتهد في العبادة.
(فارغب): من الرغبة في الإجابة.
وخلاصة المعنى: أن الحق تبارك وتعالى يأمر عباده بمواصلة الشكر والعبادة والعمل، فكلما فرغ الإنسان من عمل فيه رضاه سبحانه، فليشغل نفسه بعمل أخر من أعمال الخير، وعليه أن يتوجه برغباته إلى الله؛ فهو المجيب لعباده القريب منهم سبحانه.